غياب شبه تام للبرامج العلمية والتكنولوجية في القنوات الإعلامية العربية
الاعتقاد السائد عند عموم الناس بان التطورات التكنولوجية تقدم كافة الحلول
لمشاكل المجتمع العصري وانها بالضرورة تعبير عن مقياس التقدم لأي بلد ولذا
فهي خالية من اي انعكاسات أو افرازات سلبية. ويوجد قلة من الناس الذين
يشكون بفوائد التكنولوجيا الجمة، كما تروج لها الاكثرية، مستشهدين بالمثال
النموذجي «ان السيارات كانت سببا اساسيا في تدمير البيئة وتغير جمال
الطبيعة وتركيبة المدينة وغيرها». ويدافع اغلبية الناس بالمقابل عن فوائد
السيارة الكثيرة في الحركة وافرازاتها المهمة لتقدم المجتمع العصري وارتقاء
الحياة.
والاسئلة التي يجب طرحها هي ما الذي تقدمه التكنولوجيا لنا؟ وما الذي تسلبه
التكنولوجيا منا؟ وما هو الثمن الذي يجب دفعه للتكنولوجيا الجديدة؟ وما هي
المشاكل التي تحلها التكنولوجيا الجديدة؟ وما هي المشاكل الناجمة من حل
المشاكل القديمة؟ واذا نظرنا الى معظم التقنيات المهمة في الـ 150 سنة
الماضية نجد نقاشا في صالح التكنولوجيا وآخر ضد التكنولوجيا.
سقراط وأفلاطون وتكنولوجية الكتابة يبدو ان هذا النقاش مشابه للحوار
القديم والشهير بين سقراط وافلاطون حيث كان سقراط يعتقد بكثرة سلبيات
الكتابة مقارنة بايجابياتها وفي حواره المعروف بـ «فدراس» شخص هذا الفيلسوف
ثلاث سلبيات الاولى: خسارة الذاكرة والثانية الطريقة التي نعلّم بها
انفسنا، والثالثة تلاشي حاسة الخصوصية. بينما افلاطون اعتقد ان الكتابة
تساهم في تقدم اجتهادنا الثقافي اضافة الى توسيع ادراكنا وآفاقنا وبالتالي
امكانيات معرفتنا.
وهناك الايجابيات والسلبيات كذلك في الاكتشافات العلمية والتطورات
التكنولوجية. وغالبية الناس غير واعين لمضار او فوائد التكنولوجيا وبالتالي
عدم الاستيعاب لأهمية «حوار مع التكنولوجيا» و«حوار ضد التكنولوجيا».
والمشكلة الاخرى هي اعتقاد العلماء والتكنولوجيين بانهم دائما على حق في ما
يتعلق بالعلم والتكنولوجيا، وهدفهم خدمة الانسانية واهتمامهم بدفع حركة
الاكتشافات العلمية وتطورها الى تقنيات عملية، ونفوذها الى تفاصيل المجتمع
كما هو الحال في تكنولوجيا اليوم، الكومبيوتر، وتكنولوجيا الامس السيارة
والتلفزيون وغيرهما.
وهناك من يعتقد اننا وصلنا الى مرحلة حساسة في عصر تطور التكنولوجيا بحيث
تجعل النقاش في سلبيات وايجابيات العلم والتكنولوجيا امرا جديا للغاية.
والمسؤولية الاخلاقية كما يرى البعض هي في طرح الاسئلة التالية: ماذا
تعطينا التكنولوجيا؟ وماذا تأخذ منا؟ واين حدود العلم والمعرفة؟
وتطبيقات علم الجينات، كمثال عملي، والمزج بين الجينات والطبيعة كما في
بحوث الاستنساخ مثال آخر، وعلم الذرة في تطبيقاته الشريرة من جانب كما في
تطوير الاسلحة الذرية والمعرفة الجيدة وتطبيقاتها النافعة لبني البشر من
جانب آخر.
والاعتقاد السائد عند معظم علماء التكنولوجيا المتطورة هو تملكهم للحقائق
والمعرفة العلمية وجهل عموم الناس بهذه الحقائق الذي يتطلب من عموم الناس
السير في خطاهم. والحقيقة ان العلماء غالبا ما يروّجون لما يلائم معرفتهم
وهذا ما يتوجب على عامة الناس الوعي او الالمام بقضية العلم والتكنولوجيا،
وعلى المجتمع الانساني ان يكون محترسا من اندفاع بعض العلماء في اتجاه
خبراتهم وافكارهم دون مراجعة وتقييم النتائج النهائية على الصعيد الاجتماعي
والاخلاقي.
فمن مسؤوليات العلماء والمهندسين ممارسة الوعي بانعكاسات العلم على عموم
الناس. وربما كان الاهم محاولة الربط بين القضايا الكثيرة والمختلفة في
المجتمع ونتاجاتها المتنوعة والفردية في نهاية المطاف، توصلا الى قضايا
اكبر واعمق على الجوانب الاجتماعية. وهذا ما يتطلب منهم الالمام البسيط
بعلم الاجتماع لمعرفة احتياجات المجتمع وآثار انجازاتهم العلمية عليه.
والنقطة الجوهرية في هذا كله، الوعي بأن كل فعاليات الانسان اجتماعية، اما
الاختلاف في هذه الفعاليات فكامن في التفاصيل فقط.
ولا يعرف المؤرخون وعلماء الاجتماع من جانبهم بما فيه الكفاية عن العلم
والتكنولوجيا في ترجمة ملاحظاتهم الاجتماعية وبالتالي نظرياتهم في تفسير
الآثار العلمية في المجتمع، والاخذ في الاعتبار طبيعة الجانب الاجتماعي
للعلماء والتكنولوجيين وانعكاساتها على المجتمع عند محاولة فهم محدودية
الكيانات غير الاجتماعية مثل الكومبيوتر والانسان الآلي Robot وغيرهما من
الادوات او الآلات وموقعهما في حركة المجتمع العصري. وهذا ما يسهل فهم
العلاقة بين مفردات النقاش، مع التكنولوجيا او ضد التكنولوجيا.
العلماء وادارة المجتمع كما يساعد الوعي المتبادل بين العلماء
والتكنولوجيين من جانب وعموم الناس من جانب آخر على تغير وجهة نظر النظام
السياسي وبالتالي خلق الارضية المناسبة لتفهم متطلبات العموم. وكان هناك
اهتمام من قبل العلماء في المملكة المتحدة، بعد الحرب الكونية الثانية، في
الشؤون الاجتماعية، خصوصا في ما يتعلق بتفجير القنبلة الذرية. وأدى هذا
الاهتمام الى سلسلة من المناقشات الساخنة في الستينات من القرن العشرين في
الراديو والتلفزيون البريطاني التي شملت الكثير من العلماء والانسانيين من
ثقافتين مختلفتين في كيفية توعية المجتمع وايجاد العلاقة بين العلم والفن
science & Art في معالجة قضايا المجتمع الجوهرية. وانبرى واحد من
العلماء الربط بين المشهورين، هو جون برونيل، في بعض تصريحاته «يدعو الى
ادارة المجتمع من قبل العلماء، وان تكون السلطة او القرار حسب منطق هذا
العالم بيد العلماء».
افرزت هذه الحركة علم اجتماع العلوم Sociology of Science وتطور ما يسمى
اليوم في اجتماع المعرفة العلمية Sociology of Scientific Knowledge ويساهم
هذا العلم في جعل فهم التكنولوجيا في متناول الجميع واطلاعهم على
الانجازات العلمية من خلال تلفزة العلم كما في اوبن ينفرستي Open
University والقنوات العلمية الاخرى امثال Horizon والاكتشاف Discovery.
وللاسف هناك غياب تام او شبه تام للبرامج العلمية والتكنولوجية في
تلفزيونات القنوات الفضائية العربية العديدة التي يمكن ان تلعب دورا بالغ
الاهمية في نشر ثقافة العلم والتكنولوجيا من جانب وتوضيح فوائدها ومضارها
من جانب آخر. ودور العموم في السيطرة على العلوم وتحريرها من سيطرة قوى
السوق، كما في تبعات وعواقب قضية جنون البقر في بريطانيا او الاستنساخ
وغيرها، وصد التكنولوجيا من تدمير البيئة والحيلولة دون انعكاساتها الضارة
على البشر وتصديعها للحياة الاجتماعية.